ذِكْرُ مَنْ اعْتَلَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ


(
مَرَضُ أَبِي بَكْرٍ وَعَامِرٍ وَبِلَالٍ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عَنْهُمْ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَعُمَرُ [١] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأَ أَرْضِ اللَّهِ مِنْ الْحُمَّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ، فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ. قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَبِلَالٍ، مَوْلَيَا أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَأَصَابَتْهُمْ الْحُمَّى، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَعُودُهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، وَبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْوَعْكِ [٢]، فَدَنَوْتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَبَتْ؟ فَقَالَ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ [٣]


[١] كَذَا فِي أ، ط وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عَمْرو» وَهُوَ تَحْرِيف. (رَاجع شرح السِّيرَة وتراجم رجال) .
[٢] الوعك: شدَّة ألم الْمَرَض.
[٣] هَذَا الْبَيْت والّذي بعده لعَمْرو بن مامة.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي أَبِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ: ثُمَّ دَنَوْتُ إلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ فَقَالَ:
لَقَدْ وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ ... إنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهَدٌ بِطَوْقِهِ ... كَالثَّوْرِ يَحْمِي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ [١]
(بِطَوْقِهِ) [٢] يُرِيدُ: بِطَاقَتِهِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [٣]: قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عَامِرٌ مَا يَقُولُ! قَالَتْ: وَكَانَ بِلَالٌ إذَا تَرَكَتْهُ الْحُمَّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ [٤] فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِفَخٍّ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ [٥]
وَهَلْ أَرِدَنْ [٥] يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ [٦] ... وَهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ وَطُفَيْلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: شَامَةٌ وَطُفَيْلٌ: جَبَلَانِ بِمَكَّةَ.

(دُعَاءُ الرَّسُولِ ﷺ بِنَقْلِ وَبَاءِ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ):
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: إنَّهُمْ لَيَهْذُونَ وَمَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهمّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إلَيْنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا [٧] وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إلَى مَهْيَعَةَ» ومَهْيَعَةُ، الْجُحْفَةُ [٨] .



[١] الروق: الْقرن.
[٢] زِيَادَة عَن أ، ط.
[٣] فِي ط: «الطوق: الكلفة والروق: الْقرن. قَالَ رؤبة بن العجاج يصف الثور وَالْكلاب» ثمَّ سَاق شَاهدا من شعره نستطع تصويبه فأهملناه.
[٤] رفع عقيرته، أَي رفع صَوته.
[٥] فخ (بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالجيم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَريّ: فخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة): مَوضِع خَارج مَكَّة. والإذخر: نَبَات طيب الرَّائِحَة. والجليل: النمام.
[٦] مجنة: اسْم سوق للْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهِي بِأَسْفَل مَكَّة، على قدر بريد مِنْهَا.
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[٧] يعْنى الطَّعَام الّذي يُكَال بِالْمدِّ وبالصاع. وَالْمدّ: رطلان عِنْد أهل الْعرَاق، ورطل وَثلث عِنْد أهل الْحجاز. والصاع: أَرْبَعَة أَمْدَاد عِنْد الْحِجَازِيِّينَ.
[٨] وَقيل. مهيعة: قريب من الْجحْفَة. وَهِي مِيقَات أهل الشَّام.

(مَا جَهَدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْوَبَاءِ):
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَذكر ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابَتْهُمْ حُمَّى الْمَدِينَةِ، حَتَّى جَهَدُوا مَرَضًا، وَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ، حَتَّى كَانُوا مَا يُصَلُّونَ إلَّا وَهُمْ قُعُودٌ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ يُصَلُّونَ كَذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: اعْلَمُوا أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ. قَالَ: فَتَجَشَّمَ [١] الْمُسْلِمُونَ الْقِيَامَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ الْتِمَاسَ الْفَضْلِ.

(بَدْءُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَهَيَّأَ لِحَرْبِهِ، قَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ، وَقِتَالِ مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.

تَارِيخُ الْهِجْرَةِ
بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ، وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَعْتَدِلَ، لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ التَّارِيخُ، (فِيمَا) [٢] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ عز وجل بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَشَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَجُمَادَيَيْنِ، وَرَجَبًا، وَشَعْبَانَ، وَشَهْرَ رَمَضَانَ، وَشَوَّالًا، وَذَا الْقِعْدَةِ، وَذَا الْحَجَّةِ- وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ- وَالْمُحَرَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا فِي صَفَرَ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ.


[١] تجشم: تكلّف.
[٢] زِيَادَة عَن أ، ط.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ.

 


معزّ نوني
معزّ نوني
المؤهلات العلمية: متحصّل على شهادة ختم الدروس لتكوين المعلّمين بقفصة لسنة 2000 المهنة: أستاذ مدارس ابتدائية
تعليقات